فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (70- 71):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [70- 71].
{وَاللّهُ خَلَقَكُمْ} أي: أنشأكم من العدم: {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي: أضعفه وأردئه وهو الهرم. وقوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} اللام للصيرورة والعاقبة. أي: فيصيرُ، إن كان عالماً جاهلاً، فيريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته.
قال في العناية: وكونه غير عالم بعد علمه، كناية عن النسيان؛ لأن الناسي يعلم الشيء ثم ينساه، فلا يعلم بعد ما علم. أو العالم بمعنى الإدراك والتعقل، والمعنى: لا يترقى في إدراك عقله وفهمه؛ لأن الشاب في الترقي، والشيخ في التوقف والنقصان.
وفي الكشاف: ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان. وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه، فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل: لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئاً. وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه الأول. و{شيئاً} منصوب على المصدرية أو المفعولية. وجوَّز فيه التنازع بين {يعلم} و{علم} وكون مفعول {علم} محذوفاً لقصد العموم. أي: لا يعلم شيئاً ما بعد علم أشياء كثيرة {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} أي: جعلكم متفاوتين فيه، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ} أي: في الرزق، وهم الملاك: {بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي: بمعطيهم إياه: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي: فيستووا مع عبيدهم في الرزق.
والآية مثلٌ ضرب للذين جعلوا له تعالى شركاء. أي: أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم. فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي شركاء في الإلهية والتعظيم؟ كما قال في الأخرى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28].
{أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} أي: فيشركون معه غيره وهو المنعم عليهم. أو حيث إنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم بها عليهم؟! فإنه لا نعمة على العالم أجل من إقامة الحجج وإيضاح السبل بإرسال الرسل.

.تفسير الآيات (72- 74):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [72- 74].
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: في جنسكم وشكلكم إناثاً أزواجاً لتأنسوا بها وتحصل المودة والألفة والرحمة: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} أي: بنات وأولاد أولاد: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} وهو منفعة الأصنام وشفاعتها: {وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} أي: في إضافة نعمه إلى الأصنام، أو في تحريم ما أحل لهم.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً} أي: من مطر أو نبات و{شيئاً} نصب على المفعولية من رزق إن كان مصدراً، وإن جعل اسماً للمرزوق فـ: {شيئاً} بدل منه بمعنى قليلاً. و{من السماوات} متعلق بـ: {يملك} على كون الرزق مصدراً. أو هو صفة لـ: {رزقاً}: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي: أن يتملكوه. أو لا استطاعة لهم أصلاً. أو الضمير للمشركين. أي: ولا يستطيعون مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد؟!.
{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} أي: فلا تجعلوا له أنداداً وأمثالاً. والضرب للمثل فيه معنى الجعل. والأمثال جمع مثل بكسر فسكون على هذا، وقيل: جمع مَثَل بفتحتين، والآية استعارة تمثيلية للإشراك به. حيث جعل المشرك به الذي يشبهه بخلقه، بمنزلة ضارب المثل. فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة، وذاتاً بذات. كما أن ضارب المثل كذلك. فكأنه قيل: ولا تشركوا. وعدل عنه لما ذكر، دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفاً وذاتاً. وفي لفظة {الأمثال} لمن لا مثال له، نعيٌ عظيم على سوء فعلهم. كذا في شرح الكشاف.
{إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي: يعلم قبح ما تشركون وأنتم لا تعلمونه. ولو علمتموه لما جرأتم عليه، فهو تعليل للنهي. أو يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم وقياسكم دون نصه. ولما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك، عقبه بالكشف لذي البصيرة، عن حالهم في تلك الغفلة، وحال من تابعهم، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (75):

القول في تأويل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [75].
{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني أن مثل هؤلاء في إشراكهم، مثلُ من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك يتصرف في ماله كيف يشاء، ولا مساواة بينهما، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى. فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟! وإيثار قوله: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} إلخ على مالكاً للتنبيه على أن ما بيده، هو من فضل الله ورزقه، وعلى تذكيره الإنفاق منه في السر والجهر، ليكون عاملاً بأمر الله فيه.
وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: على ما هدى أولياءه. وأنعم عليهم من التوحيد. أو الحمد كله له لا يستحقه شيء من الأصنام. أو الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور المحبة وأكثرهم لا يعلمونها، مع أنها في غاية ظهورها ونهاية وضوحها.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (76):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [76].
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً} أي: مثلاً آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} أي: أخرس: {لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} أي: مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} أي: ثقيل على من يلي أمره، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه: {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: حيث يرسله في أمر لا يأت بنجحه وكفاية مهمه: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي: ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس، بحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل.
{وَهُوَ} أي: في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام: {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على سيرة صالحة ودين قويم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله.
قال الأزهري: ضرب تعالى مثلاً للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيء، فهو كلٌّ على مولاه؛ لأنه يحمله إذا ظعن فيحوله من مكان إلى مكان. فقال الله تعالى: هل يستوي هذا الصنم الكل، ومن يأمر بالعدل؟ استفهام معناه التوبيخ، كأنه قال: لا تسووا بين الصنم وبين الخالق جل جلاله. انتهى.
وإليه أشار الزمخشري بقوله: وهذا مثل ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية. وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. انتهى.
وناقش الرازي في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع، يمنع من حملها على الوثن. وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم، يمنع من حمله على الله تعالى. انتهى.
وقد يقال في جوابه: بأن الأوصاف الأول، وإن كانت ظاهرة في الإنسان والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة إلا أن المقام صرفها إلى الوثن؛ لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما؛ لما فيه من صفات النقص. وأما الوصف في قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فكقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فصح الحمل.
ثم رأيت للإمام ابن القيم في أعلام الموقعين ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال في بحث أمثال القرآن، في هذين المثلين ما صورته:
فالمثل الأول: يعني قوله تعالى: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً} الآية، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكل شيء. ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً وليلاً ونهاراً. يمينه ملأى لا يغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء إلي ويعبدونها من دوني، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقاً حسناً، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً. والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده. فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسباً بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 73- 74]، ثم قال: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد ممن رزقه منه رزقاً حسناً. والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. فهذا مما ينبه عليه المثل وأرشد إليه. فذكره ابن عباس منبهاً على إرادته، لا أن الآية اختصت به. فتأمله فإنك تجده كثيراً في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن. فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
وأما المثل الثاني، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضاً. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق. بل وهو أبكم القلب واللسان، قد عدم النطق القلبي واللساني، مع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة. وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة. والله سبحانه حيّ قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له، راض به آمر لعباده به، محب لأهله لا يأمر بسواه، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمره وشرعه عدل كله. وأهل العدل هم أولياءه وأحباؤه. وهم المجاورون له عند يمينه، على منابر من نور. وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني. وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه. كما في الحديث الصحيح: «اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فِيَّ حكمك، عدل فِيَّ قضاؤك». فقضاؤه هو أمره الكوني: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] فلا يأمر إلا بحق وعدل. وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل. وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم، فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر. ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم، وهذا نظير قوله رسوله هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، وقوله: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله «ناصيتي بيدك» وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} نظير قوله «عدل فِيَّ قضاؤك» فالأول ملكه، والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل. فهو على الحق في أقواله وأفعاله. فلا يقضي على العبد بما يكون ظالماً به ولا يؤخذ بغير ذنبه. ولا ينقصه من حسناته شيئاً. ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها، ولم يتسبب إليها شيئاً. ولا يؤاخذ أحداً بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته، لا يظلم أحداً منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به.
ثم حكي عن مجاهد من طريق شِبْل بن أبي نَجِيْح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قال: الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه. وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر. وقد فرَّق سبحانه بين كونه آمراً بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم. وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم: أن مَرَدَّ العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها. وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه، فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته، وهذا وإن كان حقاً فليس هو معنى الآية. وقد فرَّق هود بين قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]، وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56]. فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
وقال جرير يمدح عُمَر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم

وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]. وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله. وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله، وبالله التوفيق.
وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء: إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. وقد تقدم ما في هذا القول، وبالله التوفيق. انتهى بحروفه. وقوله تعالى: